تاج الدين الحسيني: المغرب "حَضّر مُسبقا" لسيناريو صعود اليمين المتطرف للبرلمان الأوروبي بتنويع شركائه وانفاتحه على الصين وروسيا
أظهرت النتائج النهائية لانتخابات البرلمان الأوروبي تصدّر كتلة اليمين المتطرف للمشهد بحصده ربع عدد المقاعد، مقابل تراجع الاشتراكيين وحلولهم بالمركز الثاني، فيما لحقت خسارة كبيرة وصلت لثلث عدد المقاعد بالليبراليين وأحزاب البيئة، وهو ما أثار مخاوف العديدين من تحولات طارئة من شأنها أن تُرخي بظلالها السلبية ليس فقط على وضعية ملايين المهاجرين في أوروبا، لكن أيضا في ما يتعلّق بالشؤون الأمنية المرتبطة بالإرهاب والتطرف، والعلاقات مع دول الجنوب، وعلى رأسها المغرب.
ومن هذا المنطلق، حاورت "الصحيفة" محمد تاج الدين الحسيني، أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، لتسليط الضوء على هذه المتغيرات التي تعرفها آليات اتخاذ القرار لدى الشريك التقليدي للمملكة، وبسط التحولات المرتقبة في زمن التغييرات الجيوسياسية، سيّما في الشق المرتبط بملف الصحراء.
- ما هي قراءتك الأولية، لـ "الزلزال السياسي" الذي أحدثة الانتخابات الأوروبية بصعود تيار اليمين المتطرف في برلمان التكتل الإقليمي على مستوى عدد من الدول التي تربطها علاقات وثيقة مع المغرب في مقدمتها فرنسا، إسبانيا، وألمانيا؟ وإلى أي حد سيكون للأمر تداعيات على مصالح المملكة أو علاقاتها مع هذه الدول؟
بداية، من المؤكد وبدون أدنى شك، سيكون لصعود اليمين المتطرف تداعيات أولا على الصعيد الأوروبي في الداخل وأيضا في الخارج. فبالنسبة للاتحاد الأوروبي، ما حدث وأفرزته صناديق الاقتراع هو بمثابة زعزعة للاستقرار والتوازن داخل الأجهزة المركزية للتكتل الإقليمي سواء على مستوى المفوضية الأوروبية أو البرلمان الأوروبي، أو المحكمة الأوروبية وهي كلها مؤسسات كبرى ستعرف نوعا من الاختلال كنتيجة لصعود اليمين المتطرف لأن العديد من هذه الأحزاب لا تؤمن بفكرة الإيمان الأوروبي وتعاني من الوطنية الضيقة، بل وتحاول الاستفراد بالسلطة في إطار الدول التي تمثلها.
والمغرب من دول جنوب المتوسط التي تتعامل بشكل قوي مع الاتحاد الأوروبي وبالتالي ستتأثر بشكل أساسي خصوصا في ملف رئيسي يهم هذه العلاقة وهو الهجرة الجماعية أو الهجرة غير النظامية.
ولأوضح أكثر، كل الأحزاب اليمينية المتطرفة سواء الجبهة الوطنية أو حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا، حصل على 31.5 بالمئة من الأصوات مقابل 15.2 بالمئة لمرشحة حزب النهضة فاليري هاير في الانتخابات الأوروبية، وبطبيعة الحال هذا التقدم رافقه تراجع لأحزاب الاشتراكيين بما فيه حزب الوسطيين للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهذا ليس فقط على مستوى فرنسا، لكن في إسبانيا بدورها حيث تراجع الاشتراكيين مقابل تصدر اليمين نتائج الانتخابات الأوروبية بعدما تقدموا على الحزب الاشتراكي بزعامة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، فيما حقق اليمين المتطرف بعض المكاسب، إذ حصل الحزب الشعبي، التشكيل الرئيسي للمعارضة الإسبانية، على نحو 34 في المئة من الأصوات و22 مقعدا في البرلمان الأوروبي مقارنة بنحو 30 في المئة من الأصوات و20 مقعدا للاشتراكيين.
والمثير الذي حدث أيضا، هو صعود بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة التي كان بعضها مجهول الهوية أصلا، ونفس الشيء في ألمانيا بعدما تكبّدت أحزاب الائتلاف الحاكم شولتس الخسارة في انتخابات البرلمان الأوروبي، أما في إيطاليا فقد نجح حزب "إخوة إيطاليا" (FDI) بقيادة رئيسة الوزراء الحالية جورجيا ميلوني، بالحصول على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات الأوروبية، حيث بلغت نسبته 28.5 في المائة.
- استُحضِر كثيرا ملف الهجرة بعد صعود اليمين المتطرف، وتصاعدت المخاوف بخصوصه. سؤالي هو: ما مدى احتمالية حدوث تغيير راديكالي قد يكون له تأثير سلبي في هذا الملف الاستراتيجي الحساس بالضبط؟
صحيح، وهذه المعطيات الرقمية كلها التي أسلفت ذكرها، تفيد بأن وصول هذه الأحزاب اليمينية سيُؤثر بدون أدنى شك على الاتحاد الأوروبي وعلاقاته، لكن هذا التأثير الحقيقة لن يكون آنيا، لأنه إلى حد الآن المفوضية الأوروبية ماتزال تتحكم فيها بالأساس الأحزاب المحافظة والاشتراكية، وهذا هو سبب تواجد أورسولا فانديرلين رئيسة لهذه المفوضية.
لكن بطبيعة الحال، هناك أشياء تم الاتفاق عليها وستطبق في السنتين المقبلتين خاصة في الشق المرتبط بملف الهجرة، إذ تضمن لأول مرة بعض الضوابط القسرية، على غرار تقاسم بعض المهاجرين بين البلدان الأوروبية، وكذا، إنزال العقوبات المالية على البلدان التي لا تحترم التزاماتها بهذا الخصوص، ثم الشق المرتبط بالحدود المشتركة مع البلدان الأخرى في ما يتعلق بحقوق المهاجرين، والمسائل الأخرى المرتبطة بالدفاع الأوروبي والموقف من الحرب في أوكرانيا وإمكانية دعمها. لكنها بطبيعة الحال التزامات قد تعاني من جملة من الصعوبات على مستوى التنفيذ إذا تعلق الأمر بدول تقودها جماعات يمينية متطرفة، وهذا ما سينعكس على البلدان في الجوار بما فيها المغرب.
- كيف ذلك؟
المغرب سيعاني من أزمة ما يسمى بـ "الشتات" في أوروبا، أو سياسة تشتيت المهاجرين المغاربة في دول الاتحاد، والتي ستفرض ربما تقييدات على مستوى التجمع العائلي ومغادرة التراب الوطني الأوروبي، ونقل الأموال المحصلة نحو البلدان الأصلية، وما إلى ذلك من الأمثلة الكثيرة بهذا الخصوص، وبالتالي أعتقد أنّه السبب الذي دفع المغرب منذ عام 2015 وهو لا يزال يسير في هذا الاتجاه إلى تنويع الشراكات وتعددية متعامليه الاقتصاديين في عدة مجالات أخرى، وهنا أستحضر أننا اليوم في صدد إنشاء علاقات جد متطورة مع الصين من خلال "طريق الحرير" أو "الحزام والطريق" في إسمها اليوم، وهي مرحلة مهمة سيصبح فيها المغرب ذو مركز أساسي في تصنيع البطاريات الكهربائية في إفريقيا بأكملها، وسيدعم برامج صناعة السيارات الكهربائية واستخدام الطاقات النظيفة والمساهمة في البنيات التحتية والأساسية في العديد من البلدان الإفريقية.
وفي اعتقادي المغرب سيتوفر في هذه الخطوة بالذات، على مركز المنصة الاستراتيجية ليس فقط بالنسبة للصين الشعبية لكن أيضا للبلدان الأفريقة، ونحن نعلم أن فرنسا تراجع دورها أفريقيا سواء في بوركينافاسو، النيجر، مالي، السينغال، بالمقابل لدينا علاقات مع هذه الدول متطورة، ما يعطي للمملكة مركزا استراتيجيا ذو أولوية ليوظف علاقاته الاقتصادية من خلال المكتب الشريف للفوسفاط، والخطوط الملكية المغربية، والأبناك، أيضا المقاولات الاقتصادية المغربية الكبرى التي من الممكن أن تنخرط في هذا التوجه والتكتل الافريقي لخلق مشاريع مهمة من طرق وقناطر وموانئ وغيرها في البلدان الأفريقية .
- أفهم من كلامك، أن كل هذه التغييرات التي يشهدها البرلمان الأوروبي والتكتل الإقليمي ليست مصدر قلق بالنسبة للمغرب؟
نعم، وحقيقة أعتقد أن المغرب لن يتخوف بشكل مقلق من أي تحول تعرفه آليات اتخاذ القرار داخل الاتحاد الأوروبي، بل يمكن أن يتماهى ويتعايش مع كل هذه المستجدات والتطورات لخدمة مصالحه الحيوية والاستمرار كدولة مركزية ذات وضع استراتيجي تبحث عن حماية حقوقها ومصالحها العليا في إطار تعاون منتج وفعال قائم على المصالح المشتركة، وعلى مبدأ رابح رابح واحترام حقوق الانسان ومبادئه السلمية.
- إذن الصواب هنا، كان هو اتجاه المغرب إلى الانفتاح بشكل استباقي على القارة الأفريقية ثم الآسيوية وبشكل رئيسي مع الصين، هل هذا الاختيار في تنويع علاقاته الاقتصادية مع أقطاب أخرى سيمكنه من تحقيق التوازن مع شريكه التقليدي الاتحاد الأوروبي؟ أم تعتقد أن الشركاء الآسيويين الجدد هم طوق النجاة في ظل التقلبات الأوروبية؟
نعم، بكل تأكيد، وأكاد أجزم بأن هذه هي العلة الأساسية في دخول المغرب هذه المرحلة من التعددية في الشراكات بشكل استباقي، فمغرب اليوم اختار ألا يضع بيضه كله في سلة واحدة، بل أن ينوع شراكاته وهذا ظهر بوضوح ليس فقط من خلال الاتفاقيات العادية، ولكن في الاتفاقيات ذات التعاون الاستراتيجي المعمقة، وهنا أستحضر أيضا أنه في 2016 مثلا وقع المغرب اتفاقية مع الصين الشعبية، ثم مع روسيا أيضا رغم أنها تكن للغرب العداء وهو من حلفاء المغرب التقليديين، لكن الرباط اختارت أن تقيم معها شراكات تخص اتفاقيات همت العديد من القطاعات بما فيها المرشدين الدينيين. ولا يخفى أن أئمة المساجد يساهمون بشكل رئيسي في الدبلوماسية الروحية التي يرعاها المغرب، وبالتالي كل هذه البلدان عقدت مع المملكة علاقات ذات طبيعة استراتيجية سيكون لها ما بعدها سواء في التعاون الاقتصادي أو خدمة الاستقرار.
- طيب، البرلمان الأوروبي يتمتع بنظام تصويت معقد ويمرر جملة من التشريعات التي قد لا تصب في مصالح المملكة ووحدتها الترابية في كثير من الأحيان، مع العلم أن الرباط تنتظر قرار المحكمة الأوروبية حول اتفاقية الصيد والتعاون الاقتصادي. فهل من الممكن في هاته الحالة أن يكون لصعود اليمين المتطرف تأثير على الاتفاقيات الاقتصادية مع المملكة تزامنا مع "ثورة المزارعين" الأوروبيين أيضا؟
مشاكل المغرب مع الاتحاد الأووبي لا تهم بالأساس البرلمان الأوروبي، لكن من جهة ثانية أفهم اتجاه سؤالك لأن محكمة العدل الأوروبية، في الحقيقة أصبحت تحاول توجيه جميع المؤسسات في ما يتعلق باختيارات عفى عليها الزمن معاكسة لمصالح المملكة ومتقادمة على الاطلاق. فهي تعتبر أن سكان منطقة الصحراء المغربية لا يستفيدون من ثرواتها الاقليمية، ولكن عندما نتحدث عن الصحراء المغربية، فنحن نتحدث عن عنصرين أساسيين هما الثروات الفوسفورية، وفوسفاط بوكراع، هذين المصدرين الأساسيين اللذين يشكلان موضوع مطامع إلى جانب السياحة.. لكن هذه الأمور تتطلب مصاريف وإذا كانت الصحراء تدر درهما واحدا فإن المغرب يدفعه بالمقابل نفسه سبع مرات، وأكرر هنا، كل درهم تدره الصحراء إلا ويدفع المغرب عنه 7 دراهم، وهذه أمور اعترفت بها الأمم المتحدة نفسها وأيضا مجلس الأمن في قرارات متعددة أكدت أن آليات الاستثمار المغربي في الصحراء تسير عل قدم وساق، بشكل لم يسق له مثيل.
وبالتالي أعتقد أن البرلمان الأوروبي سيكون هو الآخر واعيا بهذه الحقيقة سواء تعلق الأمر بتمثيلية مكونة من الاشتراكيين والليبراليين أو اليمينين والمتطرفين، فالمغرب مستعد لتنظيم زيارات متوالية ودورية لهذه الشخصيات المؤثرة في آليات اتخاذ القرار هناك لمعاينة الواقع في عين المكان سواء في الداخلة أو في العيون أو في باقي مدن منطقة الصحراء المغربية.